أنمياتالمراجعات

Kino’s Journey – ما أدْرَكَهُ الرّحّال مِن نبأِ الرِّجال

فتاةٌ في منتصف العقد الثاني من عمرها، اِقتضبت أمتعتها واقتادت درّاجتها في رحلةٍ مجهولٌ حدّها، نذرت ألّا يُطيل في أيّ بلدٍ مكوثها عن ثلاثةِ أيّامٍ بِطولها، لكيلا يأنس على المكانِ قلبها، فيَفسُدُ بذلك ترحالها، هيرمز رفيقها الوحيد وأنيسها، وسندها في قطعِ مسافاتها، مِن بلدٍ لآخر يأخذها قدرها، فيجرُّ لها وصبًا وعللًا، وتَكشِفُ وصبَ الأمُمِ وعللهم، فتُدرِكُ أخبارًا بعد أن أدرَكتها، وتنال راحةً يزول بها تعبها، ثمّ تمضي مُجدّدًا نحو قادمِ وجهتها. 

حسنًا حسنًا، لندخل في لُبِّ الموضوع مباشرةً؛ مراجعتي هذه هيّ للنسخة الأصليّة من Kino no Tabi، أي نسخة 2003 من إنتاج استديو A.C.G.T وإخراج Ryuutarou Nakamura، إضافةً للفيلم الذي أُنتج في 2005 من نفس الاستديو. 


الأفكار، التّنوّع، والغِنى

لو طُلِبَ منّي وصف العمل بكلمة واحدة، فلن أكون في ريبٍ من نفسي وسأقول “غني”، غني بجوهره وتفاصيله، وغني في أبعاده الكثيرة، وحين أقول غني فأقصد أنّ كل حدث في الانمي -والذي غالبًا مُدّته حلقة مفردة- يُمكن أن تُبنى عليه قصّة موازية مكتملة الأركان، هذا يجعل كل حلقة من حلقاته تقريبًا بمثابة فيلم قصير، له قيمته الخاصّة المعزولة عن بقيّة الأفلام (الحلقات).

التنوعيّة القصصيّة رائعة، عاطفيّة بعض الأحداث وغرابة بعضها الآخر، جرعة من التشويق أحيانًا وأحداثٌ صادمة في أحيانٍ أخرى، جو الغموض الذي يكتنف رحلة كينو وكذلك طريقة السرد المُتغيّرة حسب الحدث، كلّ هذا موجود وبصورته المُثلى.

من العجب الذي سوف تلاحظه أثناء متابعة العمل، قوّة الأفكار المطروحة بطريقة سهلة جدًّا سلسة غير مُقحمة، وذلك ببساطة لأنّ الحدث مبني فوق الفكرة، فالفكرة هيّ الأساس والحدث وسيلة لنقلها فقط، هذا من البديهيّات الأدبية التي أصبحت لا تُرى في الدهرِ إلّا مرّة. 

معضلات أخلاقيّة، ومعضلات نفسيّة، هيمنة الديكتاتوريّة، ومساوئ الديموقراطيّة، العيش لأجل العائلة، والعائلة التي تأبى العيش الحر لأفرادها، القدر والنبوءة، العاطفة والوهم، الحرب والسّلام، مُصادرة الأفكار، الشهوة والملذّات، الرغبة والحرمان، وأهم من كل ذلك؛ الحُرّية والرّكون. جميع هذه الأفكار -وأكثر- تمّ استعراضها خلال 13 حلقة، ومُعظمها قد أُجيدت حقًّا.

كينو ورفيقها

كينو هادئة ورزينة، وباردة أحيانًا لدرجة البلادة، تؤْثِر الحياد بشكلٍ دائم ولا تُحبّذ الانخراط في الأحداث إلا عند الضرورة، وعند الضرورة تتبنّى القول المأثور “إذا ضربتَ فأوجع”، فتُبدِلُ الرّأسَ عقبًا، وتُحيلُ النّسمةَ صَرصرًا. 

كتابة شخصيّة بنفس تراكيب كينو ليس أمرًا سهلًا، إنّ الجزء الأصعب في ذلك هوّ تقديم التبريرات المنطقيّة للمشاهد، بحيث تصبح الشخصيّة التي أمامه حيّة تملُك بُعدًا انسانيًّا يمكن التعاطف معه، أو فهمه على الأقل. وأرى أنّ كينو حصلت على ما يكفي من هذه التبريرات، فهيّ لم تعش ماضي رغيد أو طبيعي على أقل تقدير بل فيه من القسوة والصدمات الشيء الكثير، وخلال فترة وجيزة مرّت بتحوّلات قويّة كانت كفيلة بتشكيل قناعات راسخة سيُبنى عليها مستقبلها. والأهم أنّ هناك وقت كافي لطرح ذلك، 45 دقيقة تقريبًا، ومضمونها عمومًا جيّد. 

من الأمور التي يستحيل عليّ إغفال ذكرها؛ الدرّاجة هيرمز، عينُ المُشاهدِ ولسانه، ينطق دائمًا بالأسئلة التي تدور في عقولنا، مُجبرًا كينو على تقديم الإجابات، فيكشف بعضًا من طباعها، ويغور في جوفها الذي يكسوه الغموض. إن كانت كينو “شاهدًا” على غرائب البلدان، فبلا شك هيرمز “شاهد” على غرائب رحلة كينو. 

بناء أحداث ممتاز. 

أحداث العمل كثيرة، غالبًا كل حلقة تحمل حدث معيّن، وأحيانًا في الحلقة الواحدة أكثر من حدث رغم أنّهم في النهاية سوف يصبّون في  الكأسِ ذاته.

والأحداث على تنوِّعها، طويلةً كانت أم قصيرة، حصلت جميعها على بناء ممتاز، جَعَلَ لكلٍّ منها قيمة حتّى لو وِجِدَ منفردًا. والبناء هنا يتمثّل بتقديم الحدث وسرده منذ اللحظة الأولى لحين الذروة ثمّ الخاتمة، وبما أنّهُ  لا يوجد حدثٌ عابر، لذا فمستوى الإجادة هذا كان ضرورة.

مخرج واعي، تلوين لهُ داعي، وتصاميم تُراعي

عندما يكون المُخرج على علمٍ بهويّة القصّة التي بين يديه وخصائصها المختلفة، حتمًا سيُحسِنُ حينها في عمله، وينقله إلى المُشاهد بالصورة الأنسب. ناكامورا كان كذلك، فكُلُّ حركةٍ قامَ بها تقريبًا أدّت وظيفتها المجعولة لأجلها، حيث ابتعد تمامًا عن المبالغات الإخراجية الاستعراضية، واعتمد على حركة الكاميرا الطبيعية وزوايا التصوير الاعتيادية في نقل المشهد، والتي قد تبدو مُمّلة في أعمالٍ أخرى لكنّها هنا مُناسبة لجوِّ العمل. ولكن مَن تابعَ عملًا سابقًا لهذا المُخرج، وتحديدًا Serial Experiments Lain سيفهم لمساته الغريبة والفريدة في إخراج بعض المشاهد، استخدامه لعناصر مُعيّنة في سبيل خلق أسلوبه الإخراجي الخاص، كتلوين الشاشة باللون الأبيض الناصع في حالات الشرود الذّهني والتفكير العميق، أو استخدام مؤثر صوتي خاص كبديل للصمت في المشاهد الساكنة، ممّا يُضفي لمسة من الترقّب والحذر. وجود هذه اللمسات في هذا العمل أقل بكثير من Serial Experiments Lain لكنّها تظل محسوسة خصوصًا لِمَن يعرف ناكامورا.

التلوين الباهت كانَ سِمة رافقت العمل خلال حلقاته، فلم تكد تجد لونًا فاقعًا في أيِّ إطارٍ مرسوم، يعكس ذلك سوداويّة الأفكار المطروحة، وحِدّتها التي تُناقض الألوان الفرائحيّة، وإن وِجِدَت فلن تكون بالتّألق المعتاد، ويستثتى من ذلك الحلقة الافتتاحيّة وحلقة أخرى في النصف الثاني، إذ يمكن اعتبارهما أكثر زركشةً لونيّة من غيرهما، ويُعزى السبب غالبًا للأفكار المطروحة فيهما، التي تُلامسُ النّفس بشكلٍ مباشر. 

استخدام مؤثّر بصري خاص (فيلتر) على طول العمل كان أمرًا مُحيّرًا، ومُزجعًا للعين في بادئ الأمر، إلا أنّي اعتدتُ عليه بعد مرور حلقتين أو ثلاث، وصِدقًا لا أستطيع الآن تخيُّل مظهر العمل من دون هذا الفيلتر. مظهره المُخطّط أفقيًّا يُعطي انطباعًا بمشاهدة شريط فيديو قديم.

وبخصوص الجوانب الإنتاجية الأخرى؛ فالموسيقى كان من النادرِ ظهورها، وحين تحضر فأثرها جيّد، وتُضيف للمشهد غالبًا على نحوٍ إيجابي. أمّا الرسم فليسَ بالمُتقنِ ولا السيئ، وتغلب عليه البساطة، مع وجود اهتمام بالخلفيّات أحيانًا، ورسم الحركة يفي بالغرض المطلوب. صوتَي كينو وهيرمز مُناسبَين.

(الفقرة الصّفراء هذه ستكون عن تصاميم الشخصيّات، واحتمال وجود حرق وارد، لذا بالإمكان تخطّيها)

تصاميم الشخصيّات جميلة وأعجبتني، فيها لمسة مُميّزة وجذّابة، وفيها مراعاة لهويّة الشخوص، فتصميم كينو ذو المظهر الصبياني له تبريره، فهيّ كانت فتاة طبيعيّة المظهر قبل أن تنقلب حياتها بملاقاة الرّحّال الشاب كينو، الذي ورثت منه عزيمته واستعارت اسمه ومشت على نهجه، حينها لا بُدّ أن تظهر بالهيئة المُناسبة لدورها الجّديد.

مشاكل جوهريّة

تتلخّص مشاكل العمل في نقطتين، الأولى موجودة -تقريبًا- في أغلب الأعمال ذوات السرد الحلقي، وهيّ مشكلة تفاوت المستوى الكتابي من حلقة لأخرى، وإن كُنتُ أرى أنّ أخفض نقطة في هذا العمل تظل جيّدة، لكن لا يلغي هذا وجود المشكلة. 

النقطة الثانية وهيّ المشكلة الأبرز، التأسيس غير الواضح للعالم، أو التأسيس المعدوم للعالم إن صحّ التعبير. عالم فيه خيال فانتازي وخيال علمي وفلسفات مختلفة كثيرة، رغم ذلك تمّ عرض الأحداث طبيعيًّا دون توضيح لأساسات هذا العالم، وعلامَ قائم وبماذا، وكيف. هذا التنوّع في العالم خَدَمَ أفكار المؤلف بشكلٍ مثالي ممّا أعطى الأحداث عمقًا فلسفيًّا في غالبِ الأحايين، ولكن مُجدّدًا؛ لا يلغي هذا وجود المشكلة، والمشكلة هنا ليست “مشكلة تنوّع”، بل “مشكلة عدم تأسيس لهذا التنوّع”. 

التقييم النهائي: 8.5/10

اظهر المزيد

محمد

مُراجع، وكاتب مقالات أحيانًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق