أفلامالمراجعات

The Animatrix – مستر أولمبيا لفرد العضلات الإخراجية

في نهاية التسعينات وأثناء تواجد الأختين واتشوسكي في اليابان لغرض الترويج لفيلمهما الجديد The Matrix، التقيا بعددٍ من صنّاع الأنيمي، منهم من كان ذو اسمًا قويم في عالم الصناعة ومنهم الأقل شهرة مقارنةً بأقرانه، وفي المُحصّلة توصّل الأطراف لاتفاق في سبيل إنتاج سلسلة أفلام قصيرة صدرت عام 2003 وتتناول قصص مرتبطة بقصّة الماتريكس الأصلية، مع تفاوت قوّة الارتباط من فيلم لآخر. 

وبالعودة للأصول، فالفكرة العامّة لفيلم الماتريكس مستوحاة على نحوٍ مباشر من تحفة مامورو أوشي Ghost in the shell التي أُنتجت عام 1995، من تأليف أحد روّاد تصنيف السايبربانك في اليابان، ماساموني شيرو، والذي لم يمانع إطلاقًا هذا الاستيحاء وأعطى الضوء الأخضر لصُنّاع الفيلم الأمريكي، لذا فالعلاقة الجيّدة بين هذين الطرفين -الياباني والأمريكي- لم تكن وليدة لحظة أو صدفة، بل هي ثقة متبادلة ومنافع مشتركة أثمرت تعاونًا حيًّا كالذي حصل. 

تسعة أفلام تتناول ثمان قصص مختلفة، أربعٌ من تلك القصص كانت من كتابة الأختين واتشوسكي، والأربع البقيّة كُتبت من قبل الصُنّاع اليابانيين. بعضٌ من هذه الأفلام ترتبط بشكلٍ مباشر بسلسلة الأفلام الأمريكية، وهناك أفلام أخرى لا تأخذ من السلسلة الأصلية سوى الفكرة. 

الفيلم الأول: Final Flight of the Osiris

هذا الفيلم من كتابة الأختين واتشوسكي، وإخراج آندي جونز. تأخذ قصّة الفيلم حيّزًا زمنيًّا يسبق أحداث الفيلم الثاني من السلسلة الأصلية (The Matrix Reloaded)، حيث يرصد أفراد طاقم سفينة الأوزوريس عدوًّا مفاجئًا يحاول النيل منهم، فيضطرّون لردعه قبل أن يتيقّنوا من القوة الكاسحة لهذا العدو الهائل. 

الفيلم مُصمّم كاملًا على هيئة الرسوم الرقميّة CGI، وفي الواقع الرسوم جيّدة بأخذ عامل الزمن في الحسبان، وخصوصًا رسوم الأشخاص وحركتهم السلسلة جدًا، والأجواء تُشابه إلى حدٍ كبير أجواء الماتريكس المعهودة. 

أمّا قصصيًّا؛ فالفيلم لم يملك الكثير لتقديمه، أحداثه متسارعة للغاية، والأكشن ضعيف وباهت فيما عدا المشهد الافتتاحي، والذي كان أفضل ما في الفيلم. بالنسبة لقصّة مرتبطة بأحداث الماتريكس، كان بالإمكان تقديم أفكار أفضل وبتطبيق ملائم أكثر، وتطويل مدّة الفيلم قد يُعلاج كمًّا معقولًا من مشاكله.

الفيلمان الثاني والثالث: The Second Renaissance

عَمَدَ المخرج الياباني ماهيرو مايدا على إعادة صياغة مجموعة من الملاحظات والدلالات الهامشيّة التي كانت قد كُتبت بواسطة الواتشوسكي، فصيّرها إلى نص روائي يحكي أحداث ما قبل الماتريكس، ويعرض أبرز المحطّات التي قلبت جوهر العالم وآلت به إلى الخراب. 

من بين جميع الأفلام الثمانية، هذا هو الفيلم الأكثر ارتباطًا بسلسلة الماتريكس، وأكثرها تركيزًا وكثافة، سواءً من حيث كم المعلومات المرسلة أو المدّة الزمنية له، فعلى عكس البقيّة، هذا الفيلم يتكون من جزئين، يتناولان قضايا مختلفة لكنها تلتقي دائمًا عند نقطةٍ ما لأن الهدف من عرضها مشترك. 

خلال الجزئين؛ ينتقل السرد من محطّة لأخرى، فتارةً نكون نحن الشاهد على بشاعة الأحداث، كأننا هناك معهم، وتارةً يتولّى الراوي مهمّة الشرح، وهذا غالبًا يحدث للمعلومات الدقيقة التي من الصعب نقلها بالصورة فقط. 

والصورة هنا تخدم السرد دائمًا، فجودة الرسوم عالية وأدق التفاصيل مرصودة بعناية، وفي كثير من الأحيان تحكي الصورة المشهد بنفسها، ويجاورها أهميةً العامل الصوتي، الذي كان مستفزًّا في المشاهد المستفزّة وملحميًّا في المشاهد التي تحتاج ذلك. 

في العموم لم يبخل مايدا في إخراجه أبدًا، تنقّلاته الخلابة بالكاميرا وتحوّله السلس من مشهد لمشهد، وإتقانه لربط هذه المشاهد على اختلاف أجوائها وبيئاتها دون حدوث أي مشكلة تُشتّت تركيز المتابع وتخرجه من أجواء العمل، ليس هذا بالأمر اليسير لكنه بالفعل أتقن دوره على أتمِّ وجه. 

الفيلم الرابع: Kid’s Story

فيلم آخر مبني على كتابات الواتشوسكي، تدور أحداثه في الفجوة الزمنية بين فيلم الماتريكس الأول والفيلم الثاني (The Matrix Reloaded)، عن فتىً في المرحلة الثانوية يعاني من اضطراب نفسي يجعله غير متيقّن من حقيقة العالم الذي يعيش به، ويراوده إحساس دائم بأنه مراقب. 

المخرج الشهير شينيتشيرو واتانابي هو من تولّى إخراج هذا الفيلم وإعداد نصّه، وكما هو معروف فإن واتانابي مهووس أيّما هوس بالجودة العالية للمشاهد الحركية، وليس من المبالغة القول بأن هذا الفيلم يحتوي على أفضل مشهد تحريكي من بين الأفلام التسعة، فالأنميتور الرائع شينيا أوهيرا وضع جُل اهتمامه وخبرته في هذا الفيلم، لتكون النتيجة مُبهرة للعين خالدة في العقل.

هذا هو الفيلم الوحيد الذي ظهر به كلتا الشخصيتين الرئيسيتين من السلسلة الأصلية (نيو وترينيتي)، ومع ذلك فمن الصعوبة استيعاب ارتباط هذا الفيلم بالفيلم الأصلي، خصوصًا إن كنت تتابع الفيلم بالدبلجة اليابانية، لكن مع قراءة سريعة لخلفية الفيلم وتفسير عُقدته، ستصل إليك الصورة كاملة، وبكل الأحوال ستستمتع بالعمل من جوانب عديدة بصرف النظر عن الارتباط.

الفيلم الخامس: Program

تتمحور القصة حول قتال يجري حدوثه داخل محاكي إفتراضي، بين المرأة المحاربة “سيس” والمقاتل السيّاف “دو”، وأثناء ذلك ينتقل ثقل هذا القتال من سلاحهما إلى جوارحهما، ليكون قتال نفسي وعاطفي أولًا، ثمّ بعد ذلك بدني. 

بتكوين قصصي بسيط وبعيد عن التعقيد، وإخراج هائل من المخضرم يوشياكي كاواجيري، هذا الفيلم يقف على قمّة هذه السلسلة بالنسبة لي، لأنه قدّم كل شيء يمكن للفيلم القصير تقديمه -أو يجب تقديمه-، ستجد نفسك تنساق بسهولة خلف عواطف الشخصيات حتى دون علمك بحقيقة دوافعهم أو عثرات ماضيهم.

كاواجيوي دائمًا ما كان لديه أسلوبه الممتع في الإخراج، خصوصًا في القتالات، ورغم أنه هنا تخلّى عن إحدى أبرز بصماته وهي “شلّالات الدم”، إلا أنه استطاع تقديم مشهد قتالي مثالي، فكرةً وتنفيذًا، كل إلتحام له سحره، وكل حركة لها أثرها، والأكثر إبهارًا من كل ذلك؛ استخدامه العجيب للحركة البطيئة، ومزامنتها مع كل ما يحدث في المحيط، ولا يكتمل هذا الإبداع إلا بوجود عناصر صوتيّة تُضيف لكل عنصر تتواجد فيه. بلا شك هذا الفيلم يُمثّل تجربة “يجب” خوضها.

الفيلم السادس: World Record

في تلك الأثناء لم يكن المخرج تاكيشي كويكي بالاسم المعروف -كمخرج- في صناعة الأنيمي، وتقتصر إسهاماته على الرسم المفتاحي، وكان ناجحًا في ذلك، ولكن هذه التجربة قد تكون نقطة التحوّل الأبرز في مسيرته، لأنها صرخة مدوّية تُلفت أنظار الجميع قبل مسامعهم نحو موهبته. 

العدّاء دان ديفيز، الرّجل الأسرع على وجه الأرض، في سباق جديد من أجل كسر رقمه السابق المسلوب منه عنوةً -بحجّة المنشّطات-، يقف أمام تحدٍّ لقدراتِ البشر ولكنه تحدٍّ لذاته وذوات من حوله قبل كل شيء. 

في المرة الأولى التي تابعت فيها هذا الفيلم، وكان مقطعًا عشوائيًا على موقع يوتيوب، من غير علمي بماهيّة الذي أشاهده ولا خلفيّته الإنتاجية أو القصصية، حينها كانت تجربة مُشتَّتة لعوامل كثيرة، منها اللغة، ولكن الملاحظة الأبرز؛ هي قوّة هذا المُنتَج، فلو كان إعلانًا لمسابقة ما مثلًا، فسيكون أفضل إعلان قد يحصل عليه أي مُعلِن في العالم، وحتى بعد متابعتي الثانية والثالثة له وفهمي للسياق الخاص بالفيلم وموقعه داخل معمعة الماتريكس، ما زلتُ أراه مبهرًا، وأتمنى أن أشاهد إعلان حقيقي عن الأولمبياد بنفس الجودة وقوّة الحضور، خصوصًا أن الأولمبياد القادم هو بالفعل في اليابان. ولِمَ لا؟.

الفيلم السابع: Beyond 

تحكي القصة عن فتاة تدعى يوكو، باحثةً عن قطّتها المفقودة في الارجاء، حتى تلتقي بمجموعة من الأطفال في بيتٍ مهجور، انكسرت فيه قوانين الفيزياء، فطفت الأجساد فوق الأرض، ونزلت الأمطار والشمس في وسط السماء، وبين كل هذه الغرائب المحيطة، نرافق يوكو في رحلة بحثها، ونتسكّع معها في دهاليز البيت وجنباته المُريبة. 

منذ اللحظات الأولى التي تبدأ فيها متابعة هذا الفيلم، سيعتريك شعور عدم الراحة والغرابة، ومع كل تقدّم سيزداد هذا الشعور ويتوسّع، لأن جميع العناصر -قصصية كانت أم بصرية- وجدت لكي تغذّي الطابع الغريب الذي يتبنّاه المخرج كوجي موريموتو، ولعلّ من تابع فيلمه الرائع “Magnetic Rose” من ثلاثية أفلام Memories قد يفهم ويستوعب قدرة موريموتو في تفعيل عوامل الجذب البصرية وتغذية عنصر الترقّب بكل الأشكال الممكنة. 

ويبقى بُطئ الإيقاع والاستخدام المفرط لزوايا التصوير غير الاعتيادية هما السمتان الأبرز والراعي الرئيسي لشعور التوجّس، وطبيعة تعامل الشخصيات مع الظرف -الأبعد ما يكون عن الواقع-، كان عامل مساعد آخر في خلق هاجس نفسي داخل قلب المتابع، وإحساسه الدائم بأن ما يحصل خاطئ. 

وهذا طبعًا مضاف إلى غرابة الفكرة الأساسية للفيلم -وسلسلة الأفلام هذه عموما- المرتبطة بأفكار عالم الماتريكس الفريدة، ولكن بدون إخراج بديع كهذا، لم يكن فيلم Beyond ليسطع، فهو لا يملك تلك الحبكة التي تذهلك بجودة كتابتها، ولا الحوارات -شبه العشوائية- هي الأخرى سوف تمتعك بالاستماع لها، إنما هو حُسن التدبير الذي حوّل فكرةٍ خام إلى تجربة بصرية ماتعة. 

الفيلم الثامن: A Detective Story

يعود شينيتشيرو واتانابي مجددًا لإخراج فيلم آخر ضمن هذه السلسلة، وتتمحور القصة هنا حول المحقق الخاص آش الذي يتلقى طلب من مجهول للتحقيق حول مخترق يحمل الإسم “ترينيتي”، يبدأ آش في مهمّته هذه والتي عصت على نخبةٍ من المحققين قبله، فكيف سينتهي به الحال؟

هذا الفيلم خادع، سيعتمد على سحبك إلى داخل أُطر الأحداث بسرعة كبيرة، ويوهمك بالفهم في أول الأمر، ومع تكثّف الحركة والحوارات، والتقلّبات التي تشمل حتى الثوابت التي بُنيت عليها القصّة، ستشعر حينها حتمًا بالضياع، وأنك كالضيف غير المرغوب به في قاعةٍ صاخبة يرقص فيها الناس بطريقة لم تعهدها أنت مطلقًا، والحقيقة أنا هنا لا أذكر ما سبق بنبرة الإعجاب والاشادة، بل ربّما العكس، وخصوصًا مع نهاية كان من المفترض أن تغيّر “اتجاه القصّة”، ولكن يبدو أن هذا الاتجاه لم يكن موجودًا من الأساس. 

لا أعلم بماذا فكّر واتانابي أثناء عمله على هذا الفيلم، أهكذا كانت نظرته أم أنها خرجت عن سياقها فحسب؟ وهل أسلوبه الإخراجي أصلًا قدّم المساعدة والسند للقصّة؟، لأن التجربة في النهاية كانت مُربَكة -ومُربِكة- وغير متفهّمة ضمن أي سياق فعلي أو تنبؤي. 

الفيلم التاسع: Matriculated

تجربة المخرج الكوري الجنوبي بيتر تشونغ في مجال الأنيمي الياباني محدودة للغاية، ولكنه هنا يكشف عن نزعة فنيّة رائعة ومميّزة، وربّما غير مطروقة قبلًا، فالتوجّه البصري لفيلمه هذا لا يشابه أي هوية بصرية أخرى، سواءً في اليابان أو خارجها، ورغم أن الإخراج عنده يأخذ كثيرًا من صفات الأنميشن الغربي مقارنةً بنظيره الياباني، إلا أن لمساته تظل محتفظة بخصوصيّتها، وتحديدًا في العناصر اللونيّة، التي لا تأخذ جانبًا محايدًا ولو للحظة.

لن أتحدّث هنا عن القصّة، ولن أطيل الحديث عمومًا، لأني أفضّل أن يعيش المتابع هذه الرّحلة بنفسه، لتخلق عنده نفس الاحساس الذي راودني أنا حينها، لإيماني بأن هذه الطريقة هي الأمثل والأنسب لهذا الفيلم.

في المُجمل؛ بيتر تشونغ ومن معه نجحوا نجاحًا باهرًا في صنع عمل سيخلق انطباعًا دائمًا في دواخل المتابعين، وقد يكون صادمًا كذلك لمدّة من الزمن، ولن تحتاج سوى لمتابعة واحدة فقط ليتولّد لديك كل ذلك.

كلمة ختام:

هذه سلسلة أفلام مُتخمة إخراجيًا، فيها كل ما قد يخطر -وما لن يخطر- على البال، والتنوّع الهائل في أساليب الطرح جعل لكل فيلم قيمته الخاصّة التي لا يشاطر غيره بها. هي كانت فرصة لبعض المخرجين لكي يُشمّروا عن سواعدهم لتقديم ما يمكنهم تقديمه، وكانت للبعض الآخر فرصة للبروز لا يمكن تجاهلها، وبالنسبة للمتابع؛ هذه تجربة لا يوجد منها اثنين، وستظل وجبة غير منقطعة بالإمكان تناولها مرارًا دون كللٍ أو ملل.

التقييم الشامل: 8/10

اظهر المزيد

محمد

مُراجع، وكاتب مقالات أحيانًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق